بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والإحسان الكثير، والبِر الواسع العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه، وفَّق من شاء من عباده لتحصيل المكاسب والأجور، وجعل شغلهم بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، والاستكثار منه، يرجون تجارة لن تبور.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، الداعي إلى الفوز بدار السلام، والبالغ بشرفه أعلى مقام، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الذين شرفوا بالانتساب إليه، وأصحابه الذين نقلوا سنته، وجاهدوا بين يديه،، ومن سلك طريقهم إلي يوم الدين.
أما بعد، أيها الناس:
اتقوا الله تعالى حق تقواه، وتعرضوا لأسباب رحمته ومغفرته، واعملوا كل سبب يوصلكم إلى رضوانه، وينيلكم فضله العظيم، ويقربكم من جنته، ويباعدكم عن ناره، فإن رحمة الله قريب من المحسنين.
وتذكروا أنكم بعد أيام قليلة داخلون في أيام جلية، أيام فاضلة، أيام معظمة، هي أعظم أيام السنة، إنها العشر الأول من شهر ذي الحجة، أحد الأشهر الأربعة الحرم وآخرها، وقد نوه الله ـ جل وعلا ـ في كتابه بشأنها وعظمها فقال سبحانه: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }.
وأعلى النبي ﷺ أمرها وأكبره وأظهره، فأخرج الإمامان البخاري والترمذي واللفظ له عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ﷺ قال: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وأخرجه الإمام الدارمي في "سننه" بلفظ: ((
مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وقد دل هذا الحديث العظيم على جملة من الفوائد، منها:
أولاً:عظم شأن هذه الأيام وأنها أجل أيام السنة وأعظمها وأفضلها، بل إن أهل العلم - رحمهم الله - قد نصوا على أنها أفضل أيام السنة، وأفضل حتى من أيام العشر الأخيرة من شهر رمضان.
وثانياً:أن التقرب إلى الله تعالى فيها بالأعمال الصالحة أحبُ عند الله من سائر أيام الدنيا.
وثالثاً:الحث والترغيب على الإكثار من الأعمال الصالحة فيها.
ورابعاً:أن جميع الأعمال من حج وصلاة وصيام وصدقة وتلاوة للقرآن وذكر لله تعالى وغيرها مضاعفة فيها.
أيها المسلمون:
احرصوا غاية الحرص على أنفسكم، وعلى أهليكم، وعلى أولادكم في أن تكونوا من المكثرين في هذه الأيام من الأعمال الصالحة، وليعن بعضكم بعضاً عليها، ويذكره بفضلها، ولا يثبطنكم الشيطان، فإنها أيام قليلة، لكنها عظيمة الأجور، سريعة الرحيل، من حُرم خيرها فقد حرم خيراً كثيراً، وقد ثبت عن القاسم بن أبي أيوب أنه قال: ((
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ )).
أيها المسلمون:
أن من جملة العبادات الفاضلة التي يجدر بنا العناية بها في هذه الأيام الفاضلة، والاستزادة منها، والمسارعة إليه هذه العبادات:
أولاً:صيام الأيام التسعة الأول منها، فصيامها سنة عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وكان هذا الصيام مشهوراً في عصر السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وثانياً:الإكثار من تلاوة القرآن، ومن قوي على ختمه مرة فأكثر فقد أسدى إلى نفسه خيراً كثيراً.
وثالثاً:الإكثار من الصدقة، وإعانة المسلمين، وتفريج كربهم.
ورابعاً:المحافظة على صلوات الفريضة في أوقاتها، ومع الجماعة، والحرص على النوافل كالسنن الرواتب وصلاة الضحى وسنة الوضوء وقيام الليل والوتر.
وخامساً:الإكثار من ذكر الله ودعائه وتسبيحه وتحميده وتهليله واستغفاره من الذنوب في سائر الأوقات والأماكن، في بيتك وسيارتك وعملك، وحين دخولك وخروجك ومشيك.
وسادساً:تكبير الله عز وجل فيها والإكثار منه: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
وقد جرى على هذا التكبير في أيام العشر عمل السلف الصالح من أهل القرون المفضلة وعلى رأسهم أصحاب النبي ﷺ، وقد قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في "صحيحه": ((
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا )).
وزاد غيره:(( لا يخرجان إلا لذلك )).
وقال ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ: ((
أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها )).
وهذا التكبير مشروع في حق سائر الناس من الرجال والنساء والصغار والكبار، يكبرون في البيوت والأسواق والمساجد والمراكب، وفي السفر وفي الإقامة، ويكبرون وهم جلوس، ويكبرون وهم يمشون، ويكبرون وهم يعملون، ويكبرون في سائر الأوقات، إلا أنهم لا يكبرون بعد السلام من صلاة الفريضة، سواء صلوا في المساجد أو البيوت أو العمل أو أي مكان، لأن التكبير الذي يكون بعد الانتهاء من صلاة الفريضة يبدأ وقته لمن في الأمصار: من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيـام التَّشريق، ثم يُقطع.
بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وجعلنا من المنتفعين العاملين، وتاب علينا، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي العظيم، الجليل الكريم، البَر الرحيم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
إن من أعظم شعائر الإسلام في أيام العشر ذبح الأضاحي، لأنها النسك العام الذي يظهر في صفوف المسلمين في جميع البلدان، والأحاديث في مشروعيتها مستفيضة مشتهرة، وثبتت بالقول والفعل منه ﷺ، بل وسماها نسكاً.
وفي هذه الأيام ترى من بعض الناس عجباً مع هذه الشعيرة، حيث يتركونها مع وجود اليسار والقدرة، ترى بعضهم يثقل عليه إخراج الدراهم في سبيل التقرب إلى الله تعالى بشرائها وذبحها أو يتردد، وقد يتعلل بارتفاع سعرها، وهو في نفس الوقت مستعد للسفر في العيد ليلهو ويتمتع، مع أنه قد يصرف في سفره ما يزيد على قيمة الأضحية، بل ولا تعوقه كلفة السفر وتجعله يتردد، وقد يشتري للعيد جوالاً جديداً من آخر ما نزل، ويحادث به بنقود كثيرة، ويعيد بملابس غالية، ثم لا يدخل عليه الحرج الذي دخل في سعر الأضحية، ولكن ليتدبر قول ربه - عز وجل - معاتباً: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }.
ومن ضحى وهو يخشى الفقر والحاجة، فليبشر بموعود الله تعالى له بالخلف الحسن، حيث قال سبحانه: {
ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }.
وقد قال الحافظ ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ: ولم يأت عنه ﷺ أنه ترك الأضحية، وندب إليها، فلا ينبغي لموسر تركها.اهـ
وثبت عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ((
مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا )).
أيها المسلمون:
إذا دخلت العشر الأول من شهر ذي الحجة فإن مريد الأضحية منهي عن الأخذ من شعره وأظفاره وجلده حتى يضحي، ويبدأ وقت هذا النهي من غروب شمس ليلة أول يوم من أيام شهر ذي الحجة، وينتهي بذبح الأضحية، وسواء ذبحها المضحي في يوم العيد أو اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق، وذلك لحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ﷺقال: ((
إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا ))رواه مسلم.
وفي لفظ آخر:
(( مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ )).
فإن أخذ المضحي من ذلك شيئاً فقد أساء، وخالف السنة، ويستغفر الله، ولا فدية عليه ولا كفارة بإجماع أهل العلم، نقله عنهم الإمام ابن قدامة المقدسي ـ رحمه الله ـ.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وزدنا فقها وعملاً بدينك، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، وأجراً كبير، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وسائر أهلينا، اللهم من كان منهم حياً فبارك له في عمره ورزقه، وزده هدى، ومن كان منهم ميتاً فتجاوز عنه، واجعله في قبره منعماً، اللهم جنبنا الشرك والبدع والمعاصي، اللهم من أراد هذه البلاد وأمنها وأهلها وولاتها وجندها والمقيمين فيها بشر وكيد وضرر فصده واجعل كيده في تباب، واجعل سعيه عليه وعلى من أعانه، وأمكن منه واخذله، اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، اللهم ارفع عنهم القتل والاقتتال، وارفع عنهم الخوف والجوع، وارفع عنهم الأمراض والأوبئة، وأعذنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق ولات أمور المسلمين لكل خير، واجعل عملهم في رضاك، وسددهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وجميع شؤونهم، إنك سميع مجيب.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك الكريم محمد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك ولسائر المسلمين، إن ربي غفور رحيم.