فضل صيام رمضان
لا شك أن شهر رمضان شهرٌ عظيم مبارك، جعله الله موسمًا للخيرات، وزادًا للتقوى والبركات، اختصه الله - سبحانه - بنزول القرآن في ليلة هي خير من ألف شهر، وافترض علينا صيامه، وسَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه.
وهو مَعْلَم مهم في تربية النفس، ففيه من العبادات والأعمال الصالحة ما يجعل النفوس تنقاد إلى رب العالمين، فتزكو النفوس، وتطهر القلوب، وتعيش الأرواح أجواءً إيمانية مفعَمة بالبركات والرحمات..
ومن روائع كلام الإمام ابن القيم رحمه الله قوله:
«لَمّا كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى مُتَوَقّفًا عَلَى جَمْعِيّتِهِ عَلَى اللّهِ وَلَمّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلّيّةِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، فَإِنّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمّهُ إلّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ الْمَنَامِ مِمّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتّتُهُ فِي كُلّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ الصّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشّهَوَاتِ الْمعوقةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهْ الْعَبْدُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَلَا يَضُرّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَشَرَعَ لَهُمْ الِاعْتِكَافَ الّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيّتُهُ عَلَيْهِ وَالْخَلْوَةُ بِهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبّهُ وَالْإِقْبَالُ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمّ كُلّهُ بِهِ، وَالْخَطَرَاتُ كُلّهَا بِذِكْرِهِ، وَالتّفَكّرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرّبُ مِنْهُ؛ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاَللّهِ بَدَلاً عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ فَيَعُدّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ. [1]
وقد استفاضت فضائل الشهر المبارك وكثرت، واشتهرت بفضله الأخبار وتواترت فيه الآثار، ومن ذلك:
فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النيران:
فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ ۵ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ لَيْلَةٍ».[2]
وإنما تُفتح أبواب الجنة في هذا الشهر؛ لكثرة الأعمال الصالحة، وترغيبًا للعاملين، وتُغلق أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان، وتُصفَّد الشياطين، فتُغَلُّ فلا يَخْلُصُون إلى ما يخلصون إليه في غيره من الأيام والشهور.
كثرة أبواب المغفرة:
تكثر في رمضان فرص العبد لنَيْل مغفرة الله سبحانه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال الجليلة التي ينال بها العبد مغفرة ذنوبه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[3]، وزاد الإمام أحمد في مسنده[4]: «وما تأخر»، قال الحافظ ابن حجر: «قَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ».[5]
وبيّنت هذه الأحاديث أن للمغفرة شرطين؛ الإيمان بالله سبحانه والإخلاص له واحتساب الأجر عنده، قال الحافظ ابن حجر: «قوله (احتسابًا)؛ لأن الصوم إنما يكون لأجل التقرب إلى الله، والنية شرط في وقوعه قربة، أي: مؤمنًا محتسبًا، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى، وقال الخطابي: (احتسابًا) أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه».[6]
فمن صام إيمانًا بالله، وحقه في التشريع، وإيمانًا بالرسول المبلِّغ عن الله أمره، وإيمانًا بمعية الله للعبد واطلاعه عليه في صومه وفطره، ورضًا بفرضية الصوم عليه، واحتسابًا لثوابه وأجره عند الله، ولم يكن كارهًا لفرضه، ولا شاكًّا في ثوابه وأجره، فإنَّ الله يغفر له ما تقدم من ذنبه.
وكذا قيام ليالي رمضان، وشغلها بالصلاة سببٌ للفوز بمغفرة الذنوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه».[7]
ومن أجلّ أسباب المغفرة في رمضان قيام ليلة القدر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﭬ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».[8]
ومن أبواب المغفرة في شهر رمضان أن يمدَّ الله في عُمْر العبد حتى يبلِّغه شهر رمضان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﭬ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ».[9]
أجر الصيام بلا حساب:
ومن فضائل الصوم: أن الصائم يُعطَى أجره بغير حساب، لا يتقيد بعدد معين، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ﭬ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ تعالى: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».[10]
وما أروع قوله: «فإنه لي وأنا أجزي به»، فلما كان الصيام عبادةً خالصة بين العبد وربه، تتجلى فيها المراقبة والإحسان، جازى الله عبده بأن أبهم الأجر وأخفى الجزاء؛ كناية عن عظمته وجلال قدره، فما أكرم الله حين يعطي سبحانه وتعالى!
الصيام يشفع للعبد يوم القيامة:
ومن فضائل الصوم أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمر ﭭ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتهُ النَّومَ بِالَّليْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ». [11]
وشهر رمضان فرصة عظيمة، فمن اغتنمها فأكثر من الصيام وتلاوة القرآن، شفعت له هذه العبادات يوم القيامة، فيقبل الله شفاعتهما ويغفر لعبده ويدخله الجنة.
الصيام يباعد العبد عن النار ويدنيه من الجنة:
كل مَن يصوم يومًا في سبيل الله؛ يباعد الله تعالى وجهه عن النار..
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْريِّ ﭬ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»[12].
وإكرامًا للصائمين جعل الله لهم بابًا خاصًّا بهم في الجنة، فعَنْ سَهْلِ بنِ سعدٍ ﭬ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»[13].
ويا لها من كرامة خاصة بالصائمين! لا يدخل من هذا الباب سواهم.
وتلخيصًا لما سبق نجد أن الله تعالى تفضَّل علينا بالأجر في هذا الشهر من ثلاثة وجوه:
1- أن الله -جل وعلا- شرَع لنا من الأعمال الصالحة ما يكون سببًا لتكفير ذنوبنا، ورفعة درجاتنا.
2- ووفقنا -سبحانه- إلى العمل الصالح، ولولا معونة الله وتوفيقه ما قمنا بهذا العمل، فسلسل الشياطين، وكفَّ نوازع الشرور عنا.
3- وتفضل علينا ربنا بالأجر الكثير مقابل هذا الجهد القليل.
إن بلوغ رمضان نعمةٌ عظيمة، يجب علينا أن نقوم بحقه بالرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيِّره أيضًا شهر عصيان
واتل القرآن، وسبِّح فيه مجتهدًا فإنه شهر تسبيح وقرآن [14] |
إن فضائل هذا الشهر لا ينالها العبد حتى يحافظ على آدابه وشعائره، فلنجتهد في إتقان صيامه، وحفظ حدوده، والتوبة إلى الله من التقصير في ذلك.
[1] زاد المعاد لابن القيم (2/ 86- 87).
[2] أخرجه الترمذي (682) وابن ماجه (1642) وصححه الألباني.
[3] أخرجه البخاري (1901)، ومسلم (759).
[4] أخرجه أحمد في المسند (22713).
[5] فتح الباري (4/ 138).
[6] فتح الباري (4/ 138).
[7] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759).
[8] أخرجه البخاري (1901) ومسلم (759).
[9] أخرجه مسلم (233).
[10] أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1151).
[11] أخرجه أحمد (6626)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3882).
[12] أخرجه مسلم (1153).
[13] أخرجه مسلم (1153).
[14] مجالس شهر رمضان، محمد بن صالح بن عثيمين، مكتبة الكوثر، ص7- 15 باختصار.